يوجد من يعتقد ان الله متكبر وهذا خطأ عظيم لان الله هو المتواضع الوحيدلأنه الوحيد العالى جداً ، الذى لا حدود لعظمته و مجده 0 و مع ذلك فهو يتنازل لخليقته تواضعاً منه 00 أما البشر الذين هم تراب و رماد ، و قبل ذلك كانوا عدماً ، فأى تواضع يتواضعونه ، و عن أى مجد ينزلون ؟!
لذلك حسناً أن أحد الآباء حينما تحدث عن تواضع البشر ، قال :
تواضع الإنسان هو أن يعرف نفسه 0مثلما حدث مع أبينا إبراهيم ، حينما تشفع فى سادوم ، قال فى كلامه مع الرب " شرعت أن أكلم المولى ، و أنا تراب و رماد " (تك27:18) 000 هنا أبو الآباء عرف نفسه أنه تراب و رماد 0 لم ينزل من مستوى عال ، و إنما عرف مستواه الحقيقى ، أنه تراب ، مهما أحاط به من غنى و من مركز 000
من تواضع الله أنه – و هو ملك الملوك و رب الأرباب (رؤ16:19) – يتنازل و يتحدث مع هذا التراب و الرماد 000يتحدث كثيراً مع موسى ، حتى دعى " كليم الله " 0 و يعطيه الفرصة أن يقضى معه أربعين يوماً على الجبل ، يشرح له و يريه المثال الخاص بخيمة الاجتماع (عب5:8) ، حيث قال له " بحسب جميع ما أنا أريك من مثال المسكن و مثال جميع آنيته ، هكذا تصنعونه " (خر9:25) 00 و ما أكثر الأنبياء و الرسل الذين تحدث معهم الرب ، و كان هو البادئ بالكلام 0
بل أن الرب – من تواضعه – كان يعرض بعض تدابيره على أحبائه من البشر قبل أن يتخذ قراراً 0فقبل أن يحرق سادوم ، نراه يقول " هل أخفى عن إبراهيم ما أنا فاعله ؟! و إبراهيم يكون أمة كبيرة و قوية ، و يتبارك به جميع أمم الأرض " (تك17:18،18) 0 و يسمح الرب لإبراهيم أن يحاوره ، بل أن يقول له فى جرأة " حاشا لك أن تفعل مثل هذا الأمر ، أن تميت البار مع الأثيم 0 فيكون البار كالأثيم 0 حاشا لك أديان الأرض كلها لا يصنع عدلاً ؟! " (تك25:18) 0 و يظل يتفاوض معه ، حتى يقول له الرب : لا أهلك المدينة من أجل العشرة 000
و من تواضع الله ، لما أراد أم يفنى بنى إسرائيل بعد أن عبدوا العجل الذهبى ، عرض الأمر أولاً على عبده موسى ، و قال له " رأيت هذا الشعب ، و إذا هو شعب صلب الرقبة " فالآن أتركنى ليحمى غضبى عليهم و أفنيهم ، فأصيرك شعباً عظيماً " ( خر9:32،10) 0 عجيب هو تواضع الرب فى قوله لموسى " أتركنى " ! و العجيب أيضاً أن موسى لم يترك الرب يفعل ذلك 0 بل قال له " إرجع عن حمو غضبك ، و اندم على الشر بشعبك 0 اذكر إبراهيم و اسحق و إسرائيل عبيدك 00" 0 على أن الأعجب من هذا كله ، أن الرب سمع لموسى و نفذ له ما طلبه 0 و هكذا يقول الكتاب " فندم الرب على الشر الذى قال إنه يفعله بشعبه " (خر11:32-14)0
من تواضع الرب ، ليس فقط أنه تحدث مع عبيده الأنبياء ، بل ما هو أكثر من هذا ، تحدث مع الأطفال 0لقد تحدث مع صموئيل الطفل ، و كلفه برسالة ينقلها إلى عالى الكاهن الشيخ ، بينما كان صموئيل فى سن لم يستطع فيه أولاً أن يميز صوت الله 00 !
و تحدث الرب مع أرميا الطفل 0 و قال له " قبلما صورتك فى البطن عرفتك 0 و قبلما خرجت من الرحم قدستك 0 جعلتك نبياً للشعوب " (أر5:1) 0 و لما قال أرميا " آه يا سيد الرب 0 إنى لا أعرف أن أتكلم لأنى ولد " ، حينئذ شجعه الرب و قواه 0 و قال له " انظر قد وكلتك اليوم على الشعوب و على الممالك 0 لتقلع و هدم و تهلك و تنقض ، و تبنى و تغرس " " هأنذا قد جعلتك اليوم مدينة حصينة و عمود حديد ، و أسوار نحاس على كل الأرض 00 فيحاربونك و لا يقدرون عليك ، لأنى أنا معك – يقول الرب – لأنقذك " (أر6:1-19) 0
حقاً ، ما أعجب هذا التواضع ، الذى به يتحدث الرب هكذا مع طفل 00
أيضاً ما أعجب عمق تواضع الرب فى تجسده 0 إذ يقول الكتاب عنه فى هذا إنه " أخلى ذاته ، آخذاً صورة عبد ، صائراً فى شبه الناس 0 و إذ وجد فى الهيئة كإنسان ، وضع نفسه و أطاع حتى الموت موت الصليب " (فى7:2،8)
و من تواضعه فى هذا التجسد ، أنه لم يأت إلى العالم محاطاً بالقوات السمائية و صفوف الملائكة ، بل ولد من أم فقيرة ، فى مزود بقر ، حيث لم يكن لهم موضع فى المنزل ( لو7:2) 00 و فى تواضعه عاش مرحلة الطفولة 0 و قيل عنه " و أما يسوع فكان ينمو فى الحكمة و القامة و النعمة عند الله و الناس " (لو52:2) 0 بل قيل إنه كان خاضعاً لمريم و يوسف (لو51:2) 0
و من تواضعه أنه هرب مع أمه و يوسف إلى مصر (مت13:2) 0كان يمكنه أن يضرب هيرودس هذا فيموت ، و لكنه لم يفعل ، بل ذهب فى هدوء إلى مصر ، دون أن يقاوم الشر (مت39:5) 0 و قضى سنوات فى مصر ، إلى أن مات هيرودس فرجع منها و سكن فى الناصرة 0
و من تواضعه أنه عاش ما يقرب من الثلاثين سنة ، لا يعرفون عنه شيئاً 0عاش فى شبه اختفاء إلى أن بلغ الثلاثين ، بادئاً خدمته فى هذا السن خاضعاً للناموس 0 و كان بإمكانه فى كل سنة منها أن يعمل أعمالاً عظيمة ، و لكنه لم يفعل 0 لأن ساعته لم تكن قد أتت بعد !! (يو4:2) 0
[u]
و من تواضعه إنه تقدم إلى معمودية التوبة 0فعل ذلك كباقى الناس ، لكي يتم كل بر (مت15:3) 0 مع أن يوحنا استحى منه ، قائلاً " أنا محتاج أن اعتمد منك ، و أنت تأتى إلى !! " (مت14:3) 0 و لكنه تمم المعمودية ، و هو غير محتاج إلى توبة ، لأنه قدوس (لو35:1) 0 لقد فعل ذلك فى اتضاع ، لكي ينوب عن البشرية فى هذه المعمودية 0
و من تواضعه أنه سمح للشيطان أن يجربه!!ما كان أسهل عليه أن ينتهره فيذهب ، كما فعل أخيراً (مت10:4) 0 و لكنه أعطى الشيطان الفرصة فى اختيار نوع التجربة و مكان التجربة 0 و كان فى كل ذلك عمق الإتضاع ، حتى أن الشيطان تجاسر أن يقول له " أعطيك هذه جميعها إن خررت و سجدت لى " (مت9:4) !!
و لم تكن هذه التجارب الثلاث التى ذكرت فى إنجيل متى ، و فى إنجيل لوقا (لو1:4-13) بل طوال الأربعين يوماً كلها التى فى البرية كان يجرب من الشيطان (مر13:1) 0
بل قيل عنه فى الرسالة إلى العبرانيين إنه " مجرب فى كل شئ مثلنا بلا خطية (عب15:4) 0 " لأنه فيما هو قد تألم مجرباً ، يقدر أن يعين المجربين " (عب18:2) 0
إذن تجاربه صدرت عن إتضاع ، و عن حب "ليرثى لضعفاتنا (عب15:4) 0
من تواضع الرب أنه كان يقبل حوار معارضيه 0و ما أكثر ما حدث ذلك مع الكتبة و الفريسيين و الصدوقين و الكهنة و شيوخ الشعب 0 كل أولئك الذين كانوا يريدون أن يصطادوه بكلمة " (لو54:11) 0 و هكذا وقفوا ضده كلما كان يصنع آية فى يوم سبت 0 و بكل إتضاع كان يشرح لهم أنه يحق فعل الخير فى السبوت (مت12:12) 0 كذلك حينما سألوه فى خبث " أيجوز أن تعطى جزية لقيصر أم لا (مر17:22) 0 و بنفس الوضع حينما سأله الصدوقيون " فى القيامة لمن من السبعة تكون هذه المرأة زوجة ، لأنها كانت للجميع ؟ ! (مت28:22) 0
كانت كلها أسئلة تحمل خبثاً و إحراجاً 0 و لكنه كان يجيب عليها ، بغض النظر عن الدافع السئ للسؤال ، و محاولة السائلين أن يوقعوه فى خطأ !!
و من تواضعه أنه كان يقبل دخول ولائم الخطاة 0فلكى يرفع نفسية الخطاة التائبين ، كان يقبل أن يدخل بيوتهم و يأكل معم 0 حتى أنهم اتهموه بأنه " أ
و شريب خمر ، محب للعشارين و الخطاة " (مت19:11) 0 و كان يقول لهم " لا يحتاج الأصحاء إلى طبيب ، بل المرضى 00 لأنى لم آت لأدعو أبرار بل خطاة إلى التوبة " (مت11:19-13) 0
حقاً ، ما أعظم تواضع الرب حينما يجلس مع هؤلاء الخطاة و المرضى ، و حينما دخل بيت زكا رئيس العشاريين ، و احتمل انتقاد اليهود له فى كيف يدخل بيت رجل خاطئ 0 و لكنه بكل اتضاع أجابهم : اليوم حصل خلاص لهذا البيت ، إذ هو أيضاً ابن ابراهيم 0 لآن ابن الإنسان قد جاء لكي يطلب و يخلص ما قد هلك " (لو5:19-10) 0
و من تواضع الرب أنه أبقى على الشيطان و لم يفنه 0على الرغم من أنه يحارب ملكوته و بأصرار 0 بل قبل منه طلبه مرتين أن يجرب أيوب الصديق مشتكياً على ذلك البار (أى2،1) 0
و من تواضع الرب أنه سمح أن يحل الشيطان من سجنه 0 و هو يعلم أنه سيعمل ضد ملكوته و أنه سيخرج ليضل الأمم (رؤ7:20،8) 0
و من تواضع الرب قبوله أن يحاكم أمام مجلس السنهدريم 0و أن يشق رئيس الكهنة ثيابه و يقول عنه " قد جدف 0 ما حاجتنا بعد إلى شهود " (مت65:26) 0 كذلك قبوله أن يقف فى المحاكمة أمام بيلاطس الذى أرسله أيضاً إلى هيرودس فاستهزأ به !!
من تواضعه أيضاً قبوله كل آلام الصليب و إهاناته 0إنه تواضع ممزوج بالحب لأجل خلاصنا 0 تواضع قبل فيه صنوف التحدى و الاستهزاء ، مستهيناً بالخزى من أجل السرور الموضوع أمامه (عب2:12) 0 و هذا السرور هو أن يفدينا و يكون كفارة عن خطايا كل العالم (1يو2:2) 0
إنه تواضع قبل فيه أن يلطم و يجلد و يبصق على وجهه ، و لهذا يقول له فى القداس الغريغورى " بذلت ظهرك للسياط ، و خديك أهملتهما للطم " و كان هذا تحقيقاً للنبوة التى قيلت عنه فى سفر أشعياء النبى " بذلت ظهرى للضاربين ، و خدى للناتفين 0 وجهى لم أستر عن العار و البصق " (اش6:50) 0
عجيب أن الرب جعل صلبه علناً ، و قيامته و صعوده سراً 0فى تواضعه قبل أن يكون صلبه أمام جميع الناس معلقاً أمامهم على جبل الجلجثة 0 أمام مجد القيامة فكان سراً لم يره أحد ، بل أعلن عنه الملائكة و القبر الفارغ 0 و كذلك مجد الصعود لم يره سوى تلاميذه (أع9:1)
فلنشكر هذا الرب المتواضع الذى لم يستح أن يدعونا أخوة له 000
بل صار بكراً وسط أخوة كثيرين (عب11:12-17) 0 و قيل أن يشركنا أيضاً فى ملكوته ، حيث نسكن معه فى أورشليم السمائية التى هى مسكن الله مع الناس (رؤ3:21) 0 و حينئذ يتحقق وعده القائل " حيث أكون أنا تكونون أنتم أيضاً " (يو3:14) 0
من نحن يارب حتى نكون معك ؟! نحن التراب و الرماد المزدرى و غير الموجود (1كو28:1)؟!
إنه ليس استحقاقنا ، بل هو تواضعك 0
أنت المقيم المسكين من التراب ، و الرافع البائس من المزبلة ، ليجلس مع رؤساء شعبه (1صم8:2) 000
إلهنا المتواضع الذى رفض الملك ، و قبل الصليب ، لأنه حقاً قد ملك على خشبة00 ليكن أسم الرب مباركاً من الأن و إلى الأبد 0 قد أعطانا صورة الله " الوديع و المتواضع القلب (مت29:11) 0